بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ

للإستمــاع والتحميل:
http://www.alamralawal.com/include/khotbapopup.php?id=289

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، نعوذ بالله من شرور أنفسنا، فما أصيب العبد إلا من هذين البابين.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرا.

أما بعد: عباد الله اتقوا الله - عز وجل -، اتقوا الله الذي لا بد لكم من لقائه، وإليه ترجعون ولا منتهى لكم دونه وأنتم موقوفون بين يديه حفاة عراة غرلًا بهمًا، ليس أمامكم إلا ما قدمتم، فاتقوه عباد الله، فإنما هي أيام قلائل أو ساعات، ثم يوضع أحدنا في صدع من الأرض غير ممهد ولا موسد، قد فارق الأسباب، والأحباب والأصحاب ولم يجد إلا ما عمل.

فيا عباد الله: لا تخدعوا عن أنفسكم، لا تخدعوا عن أنفسكم بالدنيا وزينتها والشيطان ووسوسته.

ثم اعلموا أن هما اثنتان، الكلام والهدي، فأحسن الكلام كلام الله - جل وعلا -، وأحسن الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

واعلموا أن شر الأمور في دين الله محدثاتها وأن كل محدثة في دين الله بدعة، وأن كل بدعة ضلالة.

يا أهل التوحيد، أيها المتبرءون من الشرك وأهله، إخوتي في الله: إن من أوجب الفقه على أهل التوحيد والسنة أن يفقهوا سنن الله فيهم وفي أسلافهم حتى لا يؤخذوا على غرة ولا يؤتوا من مأمن، فإن سنة الله واحدة وهي تجري على الجميع، وإن من سنة الله في أهل التوحيد خاصة ألَّا يذرهم على ما هم عليه، لا بد من زلزلة تلو زلزلة، ومن فتنة تلو فتنة حتى يُستبرأ ما في النفوس، وحتى يخرج الذهب الأحمر ويتخلصون من الخبث الذي يصحبهم.

يقول ربنا - جل وعلا -: ﴿ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)﴾ [العنكبوت] لا بد أن يظهر هذا وإلا علم الله سابق لا يتخلف، لكن لا بد أن يظهر للناس ﴿فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾.

وقال ربنا - جل وعلا - في أهل التوحيد خاصة: ﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾[آل عمران/179].

وقال ربنا - جل وعلا - في أهل التوحيد خاصة: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا ﴾ وتدبروا هذه الكلمة فإنها كافية عن كثير من الكلام ﴿ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة/214]، لقد زُلزل – والله - أصحاب محمد زلزلة تلو زلزلة، زلزلوا بعد أن دخل التوحيد وخالط بشاشة القلوب، فتبرءوا من الشرك وأهله، وقطعوا الأهل والأصحاب .

زلزلوا بالهجرة إلى الحبشة الأولى والثانية والهجرة الأخرى وقتال الأقارب، زلزلوا بانسحاب الأصحاب منهم وارتداد بعضهم وتنصر بعضهم، زلزلوا بأمور كثيرة، وكل مرة يخرج الذهب الأحمر حتى يبلغ الأمر مداه.

اشتكوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد زلازل كثيرة ومحن عظيمة وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، " يا رسول الله ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا؟"ما قالوا هذا إلا بعد أمور عظام، ما قالوه والله من أول زلزلة، ومع ذلك غضب - صلى الله عليه وسلم - واستوى جالسًا وقال: " إن من قبلكم يُفعل به كذا وكذا ما يرده عن دينه وإنكم قوم تستعجلون "، لا بد أن يبلغ الأمر غايته، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.

فيا عباد الله، يا إخوتاه: من أسباب الثبات معرفة سنن الله، ومعرفة الموقف في هذه الزلازل.

من الزلازل التي يضرب الله بها أهل التوحيد ليخرج ما عندهم، ولينقي صفهم أن تموت أئمتهم أو تُحبس أو تُطرد كما قال الله:﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ﴾ [الأنفال/30] أجرى الله لهم تجربة في أُحد، فبعد النصر ثم جاءت الهزيمة ثم صاح الصائح أن محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قُتل، فأصابهم ما أصابهم، زلزلة عظيمة، لو انهد أُحد منها لانهد، ومنهم من فعل ومنهم من فعل فلما انكشفت الزلزلة نزلت الآيات ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا﴾ حتى يخرج هذا من الصف ﴿ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)﴾ ثم ربطهم الله بأسلافهم فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا﴾ من هنا يؤتون، هذا - والله - الفقه ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [ آل عمران/148]. يا لها من زلزلة، لما مات - صلى الله عليه وسلم - موتًا حقيقيًا زُلزلوا فكان أن ثبتهم الله بالصديق بهذه الآية التي نزلت في التجربة الأولى، وهذه من بركات أُحد.

فيا عباد الله: هذه من الزلازل التي تصيب أهل التوحيد، فيجب على الموحد أن يوقن وأن يعرف الحق وأن يعض عليه بالنواجز ولو بقي وحده.

لما قُتل عثمان أصاب أصحاب محمد غربة شديدة، منهم من بنى بيته بالعقيق وسكن فيه من العشر المبشرين، ومنهم من أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتعرض، ومنهم من تفرقوا وصبروا حتى ماتوا، غربة شديدة.

لما حُبس أحمد - رحمه الله - زُلزل أصحابه وتخطفهم الناس.

لما حُبس ابن تيمية - رحمه الله - زُلزل أصحابه وتخطفهم الناس.

لما طُرد ابن عبد الوهاب - رحمه الله - زُلزل أصحابه وتخطفهم الناس.

سنة ماضية، لا بد أن تمر، فماذا أنت فاعل لو ابتليت بها؟

الزلزلة الثانية: وموت الأئمة كموت القائد في المعركة، فتنة عظيمة، قل من الجيوش من يثبت إذا مات القائد، فيجب أن يكون هذا في الحسبان.

الزلزلة الثانية: انسحاب من معك في الصف، وربما انسحب وترك وربما انقلب وعاداك؛ لأنه أحس بالنقص كيف تثبت أنت ولا يثبت هو؟ انسحاب من معك في الصف زلزلة عظيمة، ولذلك من السبع الموبقات أكبر الكبائر: الفرار يوم الزحف؛ لأنه يفت في الأعضاد ويزلزل القلوب، وهكذا من كان مع أهل التوحيد ثم انسحب وتركهم وربما عاداهم، وربما سفههم.

وقد زُلزل أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بهذه الزلزلة مرات تلو مرات، حتى في أُحد انسحب عنهم ثلث الجيش الذي كان يزعم أنه معهم، ولكنهم صبروا وصابروا حتى خرجوا كالذهب الأحمر، حتى قال فيهم ابن مسعود: " أبر هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلها تكلفًا".

إن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ما بلغوا هذه المرتبة العالية إلا بتزكية عظيمة، إلا بترك الأوطان وقطع العلاقات والصبر في ذات الله والهجرة والجهاد وأمور عظام حتى زكوا بتزكية الله لهم.

فيا عباد الله: احذروا من هذه الزلزلة. يقول ابن مسعود: " وطِّن نفسك أنه لو كفر أهل الأرض لا تكفر أنت "، وطِّن نفسك أنه قد يخذلك القريب وقد ينسحب عنك الصاحب وقد يعاديك، إذا عرفت الحق احذر أن تستبدل به عرضًا من الدنيا يسير.

يقول ربنا - جل وعلا - مبينًا أسباب الانسحاب من الصف والنكوص على العقبين حتى نحذرها - عباد الله - فما منا إلا، ولكن لطف الله ورحمته، وإذا كان في إيمان العبد صلابة زاد الله في بلائه، وإذا كان في إيمانه رقة لطف الله به، رحمة به، وإنَّا نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يثبتنا على صراطه المستقيم.

من أسباب الارتداد على العقبين ولا يعني إلى الشرك بل إلى حالته الأولى قول الله - جل وعلا -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ﴾لم يرجعوا عن جهل، رجعوا بعد أن عرفوا وأيقنوا وتبين لهم الحق ولكنهم رجعوا، ما السبب؟ قال الله: ﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)﴾ هذا والله الباب الأكبر الذي من غفل عنه جرفه السيل، وزحفه عن الصراط، الشيطان على طول الأمل، على طول المدى سول وأملى، سول وأملى، وسوس، أخذ يضخم الخسائر الذي خسرها العبد من دنياه بسبب الحق، ويعظم الأرباح التي فاتت عليه ويقارنه بغيره انظر إلى فلان ما شاء الله لم يصبه ما أصابك، وهو على حق ونفع الله به ومن هذا الكلام ﴿ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)﴾

السبب الثاني: وهو عظيم، هو أعظم أسباب الارتداد على العقبين، والنكوص عن الحق بعد ما تبين الهدى: أن بعض الناس إذا عرف الحق لا يبيع الدنيا ويشتري الآخرة، لا يقطع علاقاته السابقة مع أُناس عندهم باطل، يلبسون عليه ما يعرف أو يردونه إلى سيرته الأولى، بل تجده يضع يدًا مع أهل التوحيد ويدًا مع أهل الباطل، ويريد أن يكسب الأطراف وتكثر عنده الحسابات، لو انتصر هؤلاء فأنا معهم، لو انتصر هؤلاء فأنا معهم، إن أصاب هؤلاء شيء انسحبت،﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾[النساء/141] خسرت - والله - الصفقة﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ [النساء/74] لا يثبت على الحق إلا هذا، ﴿ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ﴾ هكذا - والله - أصحاب محمد، فمن أسباب الرجوع إبقاء العلاقات السابقة.

كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا أسلم أحدهم أول شيء في باله أن يُقطع العلاقات السابقة حتى لا ترده على عقبيه.

لما أسلم عمر كان أعظم همه ذلك اليوم أن يُقطع كل العلاقات وأن يُخبر أهل مكة كلها أنه كفرهم وآبائهم وترك دينهم واتبع محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى ذهب بنفسه إلى خاله أبي جهل وطرق عليه الباب فرحب به وسهل وقال: ما جاء بك يا ابن أختي؟ قال:" جاء بي أن أُعلمك أني قد كفرت بك وبدينك، وأني قد اتبعت محمد - صلى الله عليه وسلم -.

هذا العزم من أسباب الثبات، وأما التردد والرخاوة ووضع يد مع كل أحد فهذا والله من أسباب الخذلان، ولذا قال الله في أسباب الارتداد:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ﴾ [محمد/26] ليس في كله، ولو في جزء يسير منه ﴿ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد/28].

من أسباب الارتداد على العقبين يا إخوتاه يا أهل التوحيد: سرائر عميقة في أعماق الفؤاد قد لا يعلم عنها العبد نفسه وهو حب للدنيا ورغبة فيها أو إتباع للتوحيد والنية مدخولة، هذه السرائر قد تخرج عليه في أي لحظة ثم تقلبه على رأسه.

قال الله: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ﴾ أيَّنْ كان هذا المرض، وهذا الخبث ولو كان في أعماق الفؤاد، احذر عبد الله، أصلح قلبك ونم، أصلح ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس، أصلح سريرتك يصلح الله علانيتك، انتبه...أنت تتعامل مع من يعلم السر وما هو أخفى من السر، هذه السرائر تخرج عليك في اللحظات الحرجة فتقلبك على رأسك.

قال الله: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)﴾ في القلوب وفي الجوارح وعلى الألسنة ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)﴾ [محمد/28] هذه والله من بركات الزلزلة أن تُبلى الأخبار، وأن تظهر السرائر نسأل الله أن يعاملنا بلطفه، وأن يصلح نياتنا إنه ولي كريم.

ومن الأسباب أيها الأخوة في الارتداد على العقبين: طول الأمد، قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: " والله ما بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا ثلاث سنين، قول الله - جل وعلا -:" ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [ الحديد/17] إلى قوله: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [الحديد/20]"

يطول الطريق، يظن هذا الذي صحب أهل التوحيد أنها نطحة أو نطحتين أو سنة أو سنتين ثم يمكن ثم يهدب الدنيا هدبا ويقطفها قطفا، فإذا طال عليه الطريق قسا قلبه ورجع إلى ما كان .

فيا عباد الله: الله الله بالقرآن، فإنه ما قسا قلب قلب قط وهو يتدبر كتاب الله ويعمل بما فيه.

ومن أسباب الرجوع عباد الله: قلة العلم، فالعلم هو القوت، هو الوقود، ولذلك قال الصحابة: " كن عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًا، ولا تكن الخامس فتهلك "، كن في جو العلم، دائمًا يزداد قوتك ووقودك بالوحي، بالقرآن، بالسنة، بالآثار، مع أهل العلم، هذا بإذن الله عصمة لك، وأما أن ينتهي ما عندك من القوت وتصحب أهل الدنيا ثم لا تخشى على نفسك؟ لا والله.

ومن ذلك عباد الله أيضًا: ضعف العبادة، فالعبادة قوت ووقود وهكذا كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -.

وكذلك: التفريط في الأوامر والاستهتار بالمعاصي، قال الله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران/155]، وقال الله: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران/165].

فيا عباد الله: هذه من أسباب الرجوع من بعد ما تبين الهدى، وهذه من سنن الله لأهل التوحيد حتى إذا زلزلوا وإذا هم قد علموا سنة الله، وإذا هي - إن شاء الله - من أسباب الثبات، والله ما قصها الله علينا في القرآن في مواطن كثيرة إلا لخطورتها وأهميتها.

اللهم ثبتنا بقولك الثابت، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة يا رب العالمين، اللهم لا تكلنا لأنفسنا طرفة عين، اللهم زدنا إيمانًا توحيدًا ويقينًا وفقها، اللهم زدنا إيمانًا توحيدًا ويقينًا وفقها، اللهم زدنا إيمانًا توحيدًا ويقينًا وفقها، اللهم نسألك إيمانًا لا يرتد ونعيمًا لا ينفذ ومرافقة نبيك في أعلى درجات الخلد، اللهم ارزقنا برد اليقين وحق اليقين حتى لو كفر أهل الأرض كلهم لا نكفر يا رب العالمين، اللهم ثبتنا على ما مات عليه محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وارزقنا المجاهدة في ذلك.

لما مات نبينا - صلى الله عليه وسلم - ومات الصديق وجاء عمر وفتح الله الدنيا كثر العذل على عمر، يا عمر قد شددت على نفسك وشددت على الناس:

حتى كلمته حفصة ابنته وأم المؤمنين،: " يا أمير المؤمنين لقد شققت على نفسك وعلى الناس "

فأخذ يبكي - رضي الله عنه - وقال: " إن لي صاحبين قد ماتا قبلي، وإني أخشى إن خالفت طريقهما بعدهما أن يُخالف بي طريقهما في الآخرة، وإني والله سأقاتل عن ديني قتالًا شديدا، وإني والله سأقاتل عن ديني قتالًا شديدا "

حتى كان في آخر حياته قال: " اللهم اقبضني إليك غير مفرِّط ولا مضيع "، إن الثبات يحتاج أن تقاتل عن دينك قتالًا شديدًا ولو جاءك العذل ممن تحب ومن أقرب الناس.

قال الله:" ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة/54].

اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.