الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوا ربكم واخشوه، فإن أجسادكم وعظامكم على النار لا تقوى. وإنما هي أيام قلائل ثم أنتم راجعون إلى الله وموقوفون بين يديه فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾ [الغاشية:25- 26].

واعلموا أن أنفع الحديث وأصدق الكلام كلام الله - عز وجل -، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، واعلموا أن شر الأمور محدثاتها، وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة.

يا أهل التوحيد، يا إخواني في الله: أثنى الله على إبراهيم وإسحاق ويعقوب بصفات ثلاث من وجدت فيه هذه الصفات كان من المصطفين الأخيار:

•قال الله: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي ﴾ هذه واحدة

•﴿ وَالْأَبْصَارِ (45)﴾ وهذه الثانية

•﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ ﴾ (46) هذه الثالثة

والنتيجة ﴿ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ [ص/47]

((نعمت العدلان ونعمت العلاوة، العدلان)): ما يوضع على جانبي البعير من المتاع، والعلاوة: ما توضع فوق ظهره.


فهذان عدلان أولي الأيدي فهذا عدل، والأبصار: العدل الثاني، والخالصة وهي ذكرى الدار الآخرة هذه العلاوة، فمن وجدت فيه هذه الثلاث بلغ من العلياء كل مكان كما قال القائل: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهو المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان،

* فما معنى هذه الثلاث؟

((أولي الأيدي والأبصار)) معناها إخواني في الله معناها يا أهل التوحيد: أولي البصائر والعزائم، الأيدي: أي العزائم والقوة والعزم على الحق والصبر والصدق والإقدام، والأبصار: البصائر، أن يكون عنده بصيرة بأمر الله.

وتأمل التاريخ لن تجد أحدا نفع الله به البلاد والعباد نفعا عاما مطلقا وجدد لهذا الدين إلا من كانت فيه هذه الصفات الثلاثة، أن يكون من أصحاب البصائر النافذة المطابقة للوحي يميز بين الحق والباطل ويعرف متى ينشر الحق وكيف وأين وما هي الطريقة المطابقة لطرق الأنبياء، ويعرف الباطل وكيف يهدمه ومن أين يأتيه، وكيف يفعل به كما فعل الأنبياء، فهذه الأولى أن يكون من أهل البصائر حتى في عبادته له بصيرة وفقه، حتى في دعوته في جهاده في طلبه للعلم في نشره للعلم من أهل البصائر، والثانية: من أهل الأيدي، من أهل العزائم فإنه رب رجل له بصيرة ولكنه ضيع نفسه بسبب العجز والكسل وضعف العزيمة والخور وبيع العمر في سوق الكساد، وما ماضي الشباب بمسترد ولا يوم يفوت بمستعاد، باع عمره في سوق الكساد، بسبب ضعف العزائم فلم ينفع ولم ينتفع، وحتى في مجال التأليف والتعليم يوجد صنف عندهم بصائر وليس لهم عزائم، ويوجد صنف عبدهم عزائم ملئوا الدنيا بالكتب ولكن ليس لهم بصائر، ويوجد صنف ثالث لهم بصائر وعزائم ولكنهم أرادوا الدنيا، لم يخلصوا بتلك الخالصة، وهي ذكرى الدار الآخرة وإرادتها وأن تكون الآخرة بين عينيه.

يا إخواني في الله: من رُزق البصيرة والعزيمة وذكرى الدار بلغ من العلياء كل مكان وأصبح من المصطفين اصطفاه الله لوراثة النبوة لتبليغ رسالاته لنفع عباده وأصبح من الأخيار، وكل بحسبه وهذا موجود في القرآن كله، ومن ذلك سورة الفاتحة: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ ﴾ [الفاتحة/7]، من هم الذي أنعم الله عليهم؟ أهل البصائر والعزائم، عرفوا الحق واتبعوه وقمعوا أهواء النفوس وأقبلوا على الله وأرادوا وجهه وتذكروا الآخرة، ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ النبيين ما بلغوا النبوة إلا بذلك بفضل الله وبرحمته، الصديقين ما بلغوا الصديقية إلا بذلك بفضل الله وبرحمته، بالبصائر والعزائم وذكرى الدار، والشهداء ما نالوا ذلك إلا لأجل بصيرتهم لأجل الجهاد وأجل الشهادة ثم إقدامهم وعزمهم ونبذهم الكسل والعجز وصدقوا مع الله، ﴿ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ﴾ والصالحين كذلك ما بلغوا درجة الصلاح إلا بذلك.

إخوتاه: أليس عندنا بصيرة بفضل الذكر؟ وأنه يرفع العبد الدرجات العلى ويورثه النعيم المقيم؟ ويورثه النعيم المقيم أليس عندنا بصيرة أن الجنة قيعان طيبة وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر؟ أليس عندنا بصيرة أن الذكر من أفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فيضرب أعناقكم وتضربوا أعناقه؟ بلى عندنا بصائر نعرف ذلك تماما ولا يكلفنا شيئا، حركة اللسان لا تتعب، إذا ما النقص الذي عندنا؟

نقص العزائم، حتى في الذكر نقص العزائم، تجد العبد صامتا في سفره أو في مجلسه الساعات الطوال وإذا فكر أن يقول ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) ضعفت عزيمته، إذًا الصلاح ما يكون إلا ببصائر وعزائم وقمع النفوس عن شهواتها وأهوائها والنفوس بطالة تميل إلى الكسل إذا أنت لم تحمل على النفس ضينها فليس إلى حسن إلى حسن الثواب سبيل، كذلك العلم، كم من رجل انفتحت له سبل العلم؟ وتهيأت له أسبابه وأعطاه الله آلاته ثم ضيع نفسه.

قال ربيعة: ((لا ينبغي لأحد عنده شيء من هذا الأمر أن يضيع نفسه))، ضيع نفسه وفتحت له سبل يحترق فيها العمر وهي كساد في كساد، ضعف العزائم، إذًا الذين أنعم الله عليهم هم أهل البصائر والعزائم وأهل ذكرى الدار،

والصنف الثاني: غير المغضوب عليهم، أهل البصائر دون العزائم، اليهود عندهم بصائر، أهل علم وأهل كتاب يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم ولكن ليس عندهم عزائم، اتبعوا أهواءهم وركنوا إلى الدنيا وأخلدوا إليها.

والصنف الثالث: النصارى وأمثالهم ليس عندهم بصائر عندهم عزائم النصارى، ومن ذلك الرهبانية التي ابتدعوها ما كتبها الله عليهم، حبسوا أنفسهم في الصوامع العمر كله لا زواج ولا ملذات ولا شيء، عزائم عند هؤلاء الرهبان ولكن لا بصائر، فيا سبحان الله! ما يفلح العبد إلا بذلك.

فيا عباد الله: ابدؤوا بالبصائر وألحقوها بالعزائم واجعلوا الأمر كله مبني على إرادة الله والدار الآخرة تفلحوا بإذن الله، ثم إن البصيرة تزيد العزيمة والعزيمة تزيد البصيرة وهكذا لا يزال يغذي بعضها بعضا والعبد يرتقي في درجات المصطفين الأخيار، كم من رجل لم يتبين له خطورة المبتدعة فلما تبصر بأمرهم عزم فلما عزم وجاهدهم ازداد بصيرة فلما ازداد بصيرة ازداد عزيمة وكلما ازداد عزيمة ازداد بصيرة وإذا ازداد بصيرة ازداد عزيمة، أمر مجرب قال الله: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت/69]، الهداية لمن جاهد لمن نزل الميدان لمن احتسب أمره كله لله ولأجل إقامة هذا الدين، كم يعطيه الله من البصائر؟

عباد الله: هل فهم الآيات عند العلماء الصادقين المجددين أولي الأيدي والأبصار مثلها عند غيرهم؟ لا، والله. ما السبب؟ أنهم جاهدوا فأوتوا بصائر وأوتوا عزائم فأصبح فهمهم للآيات منزل على الواقع لأنهم يعيشون هذه الآيات ليس نظرية، كل ما قيل للرسل يقال لهم إن كانوا من أتباع الرسل.

ولذل تجد عند العلماء كالقرون الفاضلة ومالك والشافعي وأحمد وابن تيمية وابن عبد الوهاب وأمثالهم تجد عندهم من الفهم ما ليس عند غيرهم والسبب أنهم من أولي الأيدي والأبصار، أنهم من أولي الأيدي والأبصار، نزلوا في الميدان وجاهدوا فازدادوا بصيرة، فلما تبصروا ازدادوا عزيمة فلما عزموا ازدادوا بصيرة وهكذا، ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت/69]، بالتوفيق والمعونة، والأمر يطول، ومن استبان له الطريق فلا يضيع نفسه.

اللهم اجعلنا من أولي الأيدي والأبصار، اللهم اجعلنا من أولي الأيدي والأبصار، اللهم اجعلنا من أولي الأيدي والأبصار، اللهم زدنا في بصائرنا وعزائمنا، اللهم زدنا في بصائرنا وعزائمنا، اللهم واجعلنا من أهل تلك الخالصة وهي ذكرى الدار وأن تكون الدار بين أعيننا الدار الحقيقية بين أعيننا نعمل لك ولإرادة رضوانك وللدار الآخر يا رب العالمين، نعوذ بك أن تذهب البصائر والعزائم وما ينتج عنها في إرادة الدنيا، والدنيا لا تساوي عندك جناح بعوضة، اللهم وفقنا وبصرنا واهدنا واكفنا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ولا تكلنا لأنفسنا طرفة عين وألحقنا بالسلف الصالح بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن قبلهم ومن بعدهم من أنبيائك ورسلك وصفوة خلقك اللهم الحقنا بهم يا رب العالمين واسلك بنا سبيلهم وألزمنا صراطهم ولا تكلنا لأنفسنا أنت حسبنا ونعم الوكيل ولا حول لنا ولا قوة إلا بك، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه وإلهجوا إليه بالدعاء بكل خير في هذه اللحظات المباركة إن ربي رحيم ودود.