بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تصحيح النية
للشيخ الدكتور: عبد الرحمن بن صالح الحجي حفظه الله تعالى


إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مُضل له ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد عباد الله اتقوا الله تعالى حق التقوى، وراقبوا ربكم وخذوا من حياتكم لموتكم فإن الموت أقرب إليكم من حبل الوريد، {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ}، وموتك ساعتك، وما أمر الساعة، { إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[النحل:77].
والذي نفسي بيده إنه كلمح البصر أو هو أقرب ثم إذا أنت قد انتهى منك العمل وبقي الحساب ويُحال بينك وبين التسبيحة وبين الركعة وبين الآية التي تقرأها فيا معاشر العقلاء خذوا من حياتكم لموتكم، فإن الآخرة هي الدار وإن الدنيا ليست بدار.
ما رضيها الله ثواباً لأوليائه ولا عقاباً لأعدائه ولا تساوي عند الله جناح بعوضة فاستيقظوا يا رحمكم الله واعملوا لما خلقتم لأجله.
واعلموا أن أنفع شيء لقلوبكم وأرواحكم كلام ربكم جلا وعلا، وأحسن هدي وسمت وعمل هدي نبيكم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
معاشر إخواني الموحدين المتبرئين من الشرك وأهله،ومن التزكية الواجبة على أهل التوحيد عامة وعلى المنتسبين للعلم والدعوة والديانة خاصة، من التزكية الواجبة تصحيح النية يا عباد الله، النية أمرها عظيم، قد كان أصحاب محمدٍ ، يجتهدون اجتهاداً عظيماً في الاحتساب وتصحيح النوايا وتخليصها لله ، لأنه لا يثقل في الميزان يوم القيامة إلا ما أريد به وجه الله ، وما سواه فهو عملٌ ضائع وكدٌ لا طائل من ورائه.
عباد الله والشيطان أشد شيءٍ عليه العمل الخالص لأنه يدري أنه لا حظ له فيه، فهو يسعى في إفساده بكل سبيل.
فيا عباد الله تفقهوه رحمكم الله في هذا الباب واسمعوا أثار من سلف، فإن الآثار تُحي القلوب، قال بعض السلف: إذا انتشرت الآثار قلت الأهواء وإذا ضعفت الآثار انتشرت الأهواء، يقول بعض العلماء: وددت لو كان من أهل الدين والعلم لا شغل له إلا تعليم الناس النية وتصحيحها فإنها إذا صحت نيتهم أفلحوا وثقلت موازينهم وعصموا من الفتن.
قال عمر –رضي الله عنه-: إن لا أنكح النساء وما لي حاجة وأطأهن وما لي شهوة، قيل فلما يا أمير المؤمنين؟ قال: لعل الله أن يُخرج من ظهري نسمة توحده وتُجاهد في سبيله، وهكذا قال سليمان عليه السلام: لأطأن الليلة مائة امرأة تلد كل واحدة غلاماً يُجاهد في سبيل الله.
وقال معاذ الإمام-رضي الله عنه-: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي إن القوم قد جعلوا نواياهم تحت مجهرهم فهم يُصححونها ويحرصون على أفضل النية ويُخلصونها من الدخل ومن الشوائب.
قال الله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، وقال الله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى}[الليل:19]، {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى}[الليل:20]، {وَلَسَوْفَ يَرْضَى}[الليل:21]، وقال الله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا}[الإسراء:19].
من أراد الآخرة بقلبه، خرج الإمام أحمد-رحمه الله- من حديث ابن مسعود أن النبي  قال: «أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش على فراشه وهو شهيد، ورُب قتيلٍ بين الصفين الله أعلم بنيته»، وفي حديث الخسف الذين يخسفون في البيداء قالت عائشة: يا رسول الله معهم أسواقهم ومن ليس منهم قال: يُبعثون على نياتهم، وفي لفظ يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون مصادر شتى، كلٌ يُبعث على نيته.
قال عبد الله بن مسعود: لا ينفع قول ولو كان لا إله إلا الله، ولا ينفع عمل إلا بنية وعلى هذا أهل السنة، لا ينفع قولٌ إلا بعمل ولا ينفع قولٌ وعمل إلى بنية، ولا ينفع قول ٌوعملٌ ونية، إلا بإتباع السنة.
وقال يحي ابن أبي كثير: تعلموا النية فإنها علم وإنها أبلغ من العمل، وقال رجلٌ من السلف: من أراد الله فلو تعلقت الدنيا بكل جوارحه لردته نيته إلى أصله.
وقال سفيان-رحمة الله عليه- الثوري: ما عالجت شيءٌ قط أشد علي من نيتي تتقلب علي كأنها تنبت على لونٌ آخر وأنا منها في جهاد، إن القوم يُجاهدون أنفسهم ويُعالجونها في تصحيح النوايا لأن الله يقول: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}،وما سواه ليس له، الخالص، لو كان مشوباً بقطرة للناس أو للنفس لجعلها الله للشريك فهو أغنى الشركاء عن الشرك.
وقال يوسف بن أسباط-رحمة الله عليه- : تخليص النية أشد على العاملين من طول الاجتهاد وهي أثقل شيء على الشيطان يُجاهدهم على إفسادها لأنه يعلم أن النية إذا خلصت ليس له سبيل.
وروي عن علي، وسهل، والنواس، وأنس، وأبي موسى، وابن عباس، أنهم قالوا: نية المؤمن خيرٌ من عمله، ونية الفاجر شرٌ من عمله، وكلٌ يعمل على نيته ويُبعث على نيته، قالت العلماء: نية المؤمن خيرٌ من عمله، لأن من نيته صالحة لا يزال عاملاً في ليله ونهاره، وقيامه ومنامه فعمله لا ينقطع.
طاف رجلٌ بالعلماء وقال أريد أن أعمل لله في كل ساعة فدلوني على عملٍ أستمر عليه، قالوا: لا نعرف لك إلا النية الصالحة إذا فترت عن العمل فهم به، فإن الهام بالعمل والناوي له كالعامل ولو كان نائماً كما قال معاذ: أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي هذه واحدة.
والثانية: نية المؤمن خيرٌ من عمله، النية لا يدخلها الرياء سرٌ بين العبد وبين ربه، والعمل قد يدخله الرياء.
والثالثة: تخليد المؤمنين في الجنة بسبب النية، لو جوزوا على أعمالهم لنعموا على قدر سنوات عمرهم ولكنهم يُخلدون في الجنة لأجل النية لأنهم ينوون لو طالت حياتهم لعملوا.
والرابعة: أن نيتك على قد إيمانك، وعملك على قدر ضعفك، فكلما كان إيمانك أقوى كانت نيتك أصفى وجزيت على ذلك وإلا فإن العمل على قدر الضعف، والإنسان قد خلق ضعيفا.
قال رجلٌ من السف: طوبى للمخلصين تتجلى عنهم كل دهياء مظلمة كل فتن تتجلى عنهم قيل من هو: قال: الذي يعمل العمل لا يُحب أن يحمده أحدٌ من الناس، والذي يبدأ بحق الله قبل حقه وحق الناس، والذي يبدأ بعمل الآخرة قبل عمل الدنيا، إذا خير بين أمرين أو عرض له أمران بدأ بأمر الآخرة، وبدأ بحق الله طوبى لهذا المخلص، طوبى له، تنجلي عنه كل دهياء مظلمة.
وقال إبراهيم النخعي –رحمة الله عليه-: إن الرجل ليعمل العمل الحسن في أعين الناس لكنه لا يريد به وجه الله فينزل الله في قلوبهم مقت حتى يكون هذا العمل عيباً يستحي منه، وإن الرجل ليعمل العمل يثقل على الناس ويكرهونه لكنه أراد به وجه الله كإنكار المنكر فيُنزل الله الحسن والمحبة في قلوبهم له، والسبب النية أراد به وجه الله وجه الله .
وقال أبو حازم عند تصحيح الضمائر تُغفر الكبائر، وقال معقل الجزري –رحمة الله عليه-: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن أهتم بأمر آخرته يسر الله له أمر دنياه، يتواصون بها حتى لا ينسوها هذه أعظم قواعد هذه الحياه.
من فقهها وعمل بها فهو الفقيه، اللهم أصلح لنا النيات والسرائر، اللهم إنك قلت وقولك الحق يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر، وقال الله: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ}[العاديات:9]، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ}[العاديات:10]، {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}[العاديات:11].
اللهم أعنا على تخليص النية وعلى الصدق وعلى الإخلاص، وعلى إرادة وجهك يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم استغفروه.
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيرا.
إخواني في الله اتقوا الله تعالى حق التقوى وريدوا الله تفلحوا فإن ربكم شكور وعليم وخبير جلا وعلا، أريدوه تفلحوا من تقرب إليه شبرا، تقرب الله منه زراعا، ومن أتى الله يمشي أتاه الله هرولة.
قال محمد بن واسع-رحمه الله-: أدركنا رجالاً أحدهم يبكي على وساده في ليله وامرأته بجانبه لا تشعر به، وإذا أراد الصوم تسحر وادهن فيمشي مع الناس لا يشعرون به، ويقوم في الصف في سبيل الله ودموعه تسيل على لحيته لا يشعر به من بجانبه، وإذا تهجد نام في السحر نومة تُذهب عنه سفرة السهر، ثم ادهن وخرج مع الناس كأنه قد نام ملئ جفونه، يريدون وجه الله لا يريدون من الناس محمدة ولا جزاء ًولا شكورا.
قال الفضيل: خير العمل أخفاه أمنعه من الشيطان وأبعده من الرياء، وقال سفيان: إني لا أعتد بما ظهر من عملي.
حدث حسن البصري يوماً بموعظة بليغة فتنهد رجل في مجلسه تنفس بصوت، فالتفت له الحسن فقال: إن كانت هذه لله فقد شهرت نفسك، وإن كانت لغير الله فلك، والله لتُسألن عما أردت بها، تنهيده تنفس بصوت يُدققون عليها، وتنهد رجل عند عمر كأنه يتحاذل فنكزه عمر بيده يريد منه الانتباه إلى مداخل الشيطان.
وتكلم عمر ابن عبد العزيز يوماً فأحسن الكلام فقطع كلامه، قال له ميمون بم مهران: لو مضيت يا أمير المؤمنين فقد انتفعنا والله قال: إليك عني، فإن في القول فتنة وإن الفعل أولى بالمؤمن من القول، فإذا فتن بالسكوت فليتكلم وإذا فتن في الكلام ليسكت رضي الله عنهم ورحمهم.
وقال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يُظهر الرجل أحسن ما عنده يتزين، وقال الحكيم بن الحكيم، مترف بن عبد الله بن الشخير-رحمة الله عليه ورضي عن أبيه-، قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية، هذا الرجل يؤتى الحكمة انتبهوا لآثاره صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية، كما قال في الأسبوع الماضي: من صفى عمله صفى لسانه، ومن خلط في عمله خلط في لسانه جزاء وفاقا.
وقال عبد الله بن المبارك: رب عملٍ صغير عظمته النية، ورب عملٍ كبير صغرته النية، وقال الفضيل: يا عبد الله إنما يريد الله منك نيتك وإرادتك إنما ينظر إلى قلبك، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ }[الحج:37]
وقد خرج الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بن كعب قال: من عمل، عمل الآخرة لأجل الدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب نعوذ بالله.
قال الله عن المنافقين: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ}[الماعون:4]، {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[الماعون:5]، {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ}[الماعون:6]، وقال الله: { يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:142].
قال سفيان: كان من دعاء مترف هذا ابن عبد الله أنه كان يقول: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، اللهم إني أستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لا أفي بوعدي، اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك وقد خالط قلبي منه ما قد علمت، اللهم إنا نستغفرك من ذلك يا رب العالمين.
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك إنك كنت غفارا، اللهم ارزقنا حسن الإخلاص وحسن التوفيق وحسن الصدق وإرادتك يا رب العالمين، اللهم أجعلنا ممن أصلح ما بينه وبينك فأصلحت ما بينه وبين الناس، اللهم أجعلنا ممن أصلح سريرته فأصلحت علانيته، اللهم اجعلنا ممن اهتم بأمر آخرته فيسرت له أمر دنياه يا حي يا قيوم.
اللهم تب علينا وتقبل منا واغفر لنا وفقهنا اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقها، اللهم صلي وسلم على عبدك ورسولك محمد.