القول الفصل في حكم من يعذر القبوري بالجهل

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإن مسألة العذر بالجهل قد غلط فيها كثير ممن ينتسبون إلى السنة، إذا اعتقدوا أن عابد القبر يُعذر بسبب جهله، ومعنى العذر بالجهل عندهم أنه لا يقال عنه مشرك، بل هو مسلم حتى يحصل له البيان ويُعرّف أن هذا الذي يفعله شرك، فإن عاند وبقي على عبادة القبر فنحكم عليه حينئذ بالشرك. ومحصل هذا القول أنه لا يُحكم على أحد عبد غير الله تعالى بالشرك إلا المعاند. وقد وقع في هذا الغلط علماء ودعاة وأذكياء من طلاب العلم ويجادلون عنه بشبهات، كشف بعضها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتابه المعروف (كشف الشبهات) ثم جاء أئمة الدعوة من بعده فأجهزوا على باقي الشبهات التي بثها أصحاب هذا المذهب.

والكلام في هذا المسألة مبسوط في مواضعه، لكن أردت بهذا التمهيد الوصول إلى الداهية التي حلت ببعض الشباب وهي داهية التكفير لكل من لا يكفر عباد القبور ولو كان صاحب شبهة، لا يفرقون بين من يدافع عن القبوريين ويدعي أنهم مسلمون لا لشبهة عنده إلا الهوى ومعاندة أهل الحق، كداود بن جرجيس وأمثاله، وبين من يدافع عن جهلة القبوريين لشبهة عنده وهو في نفسه بعيد عن الشرك وعبادة القبور بل ينكرها ويدعو أهلها إلى التوحيد. والسبب في هذا الانحراف هو قراءة خاطئة وفهم منحرف لكلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في رسالته (نواقض الإسلام) حيث قال في النقاض الثالث: من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم، كفر. اهـ، فَفَهِم هؤلاء الشباب من هذا الكلام أن عام في كل مَن لم يكفّر عباد القبور أنه كافر مثلهم، وخفي عليهم لقصور علمهم وسوء فهمهم أن الذين لا يكفرون المشركين عُباد القبور قسمان:

الأول: من لا يكفرهم مطلقاً، يستوي عنده في عدم التكفير العالم والجاهل والمعاند والمعرض والمعارض، فكلهم عنده مسلمون، فهذا لا شك في وقوعه في الناقض الذي ذكره الشيخ -رحمه الله-.

والثاني: أصحاب الشبهة "إقامة الحجة" وهم الذي لا يكفرون الجُهال من عباد القبور إلا بعد البيان والتعريف، ويفرقون بين الجاهل والمعاند، فيكفرون المعاند فقط دون الجاهل. وهؤلاء لا شك في غلطهم في هذا المسألة، ولكنهم لا يأخذون حكم القسم الأول في الوقوع في الناقض.

وليُعلم أن هذه الظاهرة التكفيرية لمن يعذر جهال المشركين ليست جديدة فقد سئل علماء اللجنة الدائمة في حياة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمه الله- عن مسألة إعذار عباد القبور بالجهل فأجابوا بالجواب الشافي ثم بين علماء اللجنة في آخر الفتوى حكم من يعذر القبوريين من أهل التوحيد وهذا نص الكلام الوارد في الفتوى: "... وبذا يعلم أنه لا يجوز لطائفة الموحدين الذي يعتقدون كفر عباد القبور أن يكفروا إخوانهم الموحدين الذي توقفوا في كفرهم حتى تقام عليهم الحجة؛ لأن توقفهم عن تكفريهم له شبهة وهي اعتقادهم أن لا بد من إقامة الحجة على أولئك القبوريين قبل تكفريهم بخلاف من لا شبهة في كفره كاليهود، والنصارى، والشيوعين وأشباههم، فهؤلاء لا شبهة في كفرهم ولا في كفر من لم يكفرهم، والله ولي التوفيق" انتهى المراد (فتوى رقم 11043).

فتأملوا في كلام العلماء -رحمهم الله- كيف منعوا من تكفير العاذر لوجود شبهه عنده، جرياً على القاعدة الشرعية أن الحدود تُدرأ بالشبهات، فكل صاحب شبهة لا يمكن الحكم عليه بكفر أو بدعة أو فسق أو معصية قبل زوال شبهته.

وهذه فتوى أخرى تؤكد هذا المعنى: فقد سئلت اللجنة برئاسة الشيخ ابن باز -رحمه الله- السؤال التالي: نريد معرفة حكم من لم يكفر الكافر، فأجابت "من ثبت كفره وجب اعتقاد كفره والحكم عليه به وإقامة ولي الأمر حد الردة عليه إن لم يتب، ومن لم يكفّر من ثبت كفره فهو كافر، إلا أن تكون له شبهة في ذلك، فلا بد من كشفها. وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم." انتهى (فتوى رقم 6201) فهذا هو منهج علماء السنة في مثل هذه المسائل لا يطلقون حكم التكفير أو التبديع على الشخص إذا كانت عنده شبه تمنع من تكفيره أو تبديعه.

ونحن بُحت أصواتنا ونحن نقول إن الشيخ الألباني وغيره من المشايخ والطلاب عندهم شبهات في هذه المسائل تمنع من تبديعهم، أو تكفيرهم من باب أولى، ولكن الغلو والتطرف الممزوج بالهوى قد ضاعت معه هذه القواعد الشرعية والأصول المرعية عند كثر من الشباب والكهول!

ويا لَله لِلمسلمين! إذا كان الشيخ الألباني الذي خدم الإسلام والسنة هذا الخدمة العظيمة التي قل نظيرها يكون جزاؤه جزاء سنمار، فمن سيسلم بعد الألباني من التبديع والتضليل؟

وكلُّ من له خبرة ودراية علم أن سوسة التكفير ومثلها سوسة التبديع لا تقف عند حدٍ عند مَن ابتلي بها. والأدهى من ذلك أن من ابتلي بهذه السوسة سهل عليه إطلاق أحكام التكفير وأحكام التبديع، فتراه جريئاً متجاسراً متقحّماَ هذا الباب الخطير، في حين أن كبار العلماء يخافون الولوج فيه بل ويتحاشون الاقتراب منه. ويطلبون العافية فيه والسلامة منه. أما هذا الصغير في سنه أو في علمه فأهون ما يكون عنده: فلان مبتدع! وفلا جهمي! وفلا كافر! وفلان زنديق! وهذ الأوصاف صارت - تُطلق اليوم- على بعض العلماء الناصحين.

وقد يقول قائل مِن هؤلاء الذين يطلقون حكم التبديع على هذا العالم أو ذاك: نحن لم نحكم عليه بأنه مبتدع إلا من خلال أقواله، فكيف نلام في ذلك؟ والجواب: أن التكفير أو التبديع حكم شرعي لا يصح إطلاقه إلا إذا تمت شروطه وأركانه وانتفت موانعه. وهذا الحكم الذي تصدرونه على فلان وفلان بالتكفير أو التبديع يمنع منه مانع معتبر باتفاق أهل العلم هو الشبهة الحاصلة عند هذا العالم في هذه المسائل التي بدعتموه بسببها. كما سبق في كلام علماء اللجنة الدائمة أن وجود الشبهة عند الشخص تمنع من تكفيره حتى تزول. فإذا كانت الشبهة تمنع من حكم التكفير من باب أولى أن تمنع من حكم التبديع.

فإن قال قائل يريد أن يَحيد بالموضوع: إذن يلزمك تطبيق هذا الأصل على عباد القبور وأمثالهم في الغالية؟ والجواب: أن هذا الأصل مقرر في باب تكفير علماء المسلمين الموحدين ومن يقول بقولهم من طلاب العلم، وليس في باب تكفير القبوريين وأمثالهم من المشركين. فلا نخلط بين المسائل.

وهذا أقوله وأنبه عليه لئلا يأتي شخص سيء الفهم -وما أكثرهم في هذا الوقت- فيحرف كلامي إلى شيء لا أقصده ولا أعنيه. كذاك الشخص الذي سمعني أقول إخوان الصفا - جعلنا الله كلنا من إخوان الصفا، وهل شيء في الدنيا أجمل من الأُخوة الصافية؟ - فذهب يكذب عليّ بأني أقصد أصحاب "رسائل إخوان الصفا"! وهنا أتسآل: إذا كان هذا الشخص وأمثاله بهذا المستوى من الفهم فيكف جاز لهم إطلاق ألسنتهم بالطعن والتبديع لكبار علماء الأمة؟



كتبه: عبد الحميد بن خليوي الجهني
الأحد 5 ربيع الأول 1438هـ